واقع المسائلة ومتطلبات إصلاح أداء القطاع العام
إنّ واقع العمل الحكومي لدينا، شئنا أم أبينا، تحكمه روابط اجتماعية لا مهنية. هذا يجعل من المحاسبة أمراً في غاية الصعوبة لا يعالجها تنفيذ قواعد المحاسبة النمطية في نظام الخدمة المدنية، أو حتى تبني عقوبات الإدارة في القطاع الخاص وإسقاطها على القطاع الحكومي. على أرض الواقع ستبقى كلها حبراً على ورق.
بشكلٍ عام، فإنّ تقييم الموظف بدرجة متدنية سيعني عدم حصوله على علاوات وزيادات سنوية، وهذا يدفع الإدارة غالباً إلى تجنب التقييم المتدني للموظف غالبا لأسباب اجتماعية صرفة. ما يسهّل هذا هو أولاً غياب الوصف الوظيفي لكل موظف في المؤسسة الحكومية، وثانيا غياب الرقابة الحقيقية على مدى صحة تقييمات الإدارة للموظفين ثانياً.
كم سمعنا عن هذا الموظف أو ذاك بأنه لا يعمل بتاتاً ولكنه قد حصل على تقييم جيد جداً وحتى ممتاز، لأنه لم يتبقى له إلاّ سنوات قليلة للتقاعد؟ وأن هذا سيساعده لأن ينتقل الى فئة أعلى في سنوات عمله المتبقية وبالتالي زيادة راتبه التقاعدي. مع الوقت، ونتيجة غياب المساءلة والمحاسبة، ترسخ انطباع لدى الكثير من الموظفين في القطاع العام بأنّ العمل العام هو حالة “ضمان اجتماعي” يستحق فيها الموظف الراتب، وإن لم يقدم عملاً.
قصة أخرى سمعتها من أحد مدراء الموارد البشرية في إحدى المؤسسات الحكومية، بأنّ موظفاً اعتدى على مديره بالضرب لأنه قيّمه بدرجة جيد، ممّا حرمه من الزيادة السنوية في تلك السنة، ولم تتم معاقبته وبقي هذا الموظف على رأس عمله في المؤسسة على الرغم من ذلك لأنّ المسألة تمّ حلّها عشائرياً ومن ثم تحسن تقييمه السنوي بعد تلك الحادثة!
أيضاً، إذا صعدنا درجة أعلى في العلاقة بين الإدارة العليا والمدراء، سنجد أنّ تقييم الإدارة العليا للمدراء لا يستند في غالب الأحيان إلى أسس علمية؛ بل إلى روابط اجتماعية، وهذا أمر لا يخفى على أحد ممن عمل في القطاع العام.
لذلك؛ فإنّ الإصلاح الحقيقي لأداء القطاع العام لن يكون بوضع أحكام تتبنى معايير القطاع الخاص، ولا حتى بتبني معايير جوائز التميز، التي هي في حقيقتها أنظمة ورقية لا يُحاسب من يخالفها، ولا تعكس حقيقة الأداء الحكومي للمؤسسة الحكومية، إنما يتحقق الإصلاح بوضع دراسات واقعية تبحث بعمق في “سيكولوجيا” العمل الحكومي لدينا، تؤول إلى وضع حلول مبتكرة أو على الأقل تتطرق للمشكلة بصراحة، وتُمكّن من الرقابة على الإدارة العليا في تقييمها للموظفين، بدءاً من آلية تقييم الأمين العام لمدراء المؤسسة أو الوزارة بحسب واقع الحال، ومن ثمّ تقييم المدراء لموظفيهم، وبما يتيح تصحيح هذه التقييمات قبل إنفاذها.